فصل: تفسير الآية رقم (44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ الذي ذكر مما فعل به عليه السلام وبقومه ‏{‏لايات‏}‏ جليلة يستدل بها أولوا الأبصار ويعتبر ذوو الاعتبار ‏{‏وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ‏}‏ إن مخففة من إن واللام فارقة بينها وبين إن النافية وليست إن نافية واللام بمعنى إلا والجملة حالية أي وإن الشأن كنا مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم وعقاب شديد أو مختبرين بهذه الآيات عبادنا للنظر من يعتبر ويتذكر، والمراد معاملين معاملة المختبر وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ تركناها ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 15‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ أي من بعد إهلاك قوم نوح عليه السلام ‏{‏قَرْناً ءاخَرِينَ‏}‏ هم عاد أو ثمود

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ‏}‏ هو هود أو صالح عليهما السلام، والأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإليه ذهب أكثر المفسرين، وأيد بقوله تعالى حكاية عن هود ‏{‏واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 69‏]‏ وبمجىء قصة عاد بعد قصة قوم نوحف ي سورة الأعراف وسورة هود وغيرهما؛ واختار أبو سليمان الدمشقي‏.‏ والطبري الثاني واستدلا عليه بذكر الصيحة آخر القصة والمعروف أن قوم صالح هم المهلكون بها دون قوم هود، وسيأتي الجواب عنه إن شاء الله تعالى، وجعل القرن ظرفاً للإرسال كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى أُمَّةٍ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 30‏]‏ لا غاية له كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إلى قَوْمِهِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 59‏]‏ للإيذان من أول الأمر أن من أرسل إليهم لم يأتهم من غير مكانهم بل إنما نشأ فيما بين أظهرهم، و‏{‏ءانٍ‏}‏ في

‏[‏بم قوله تعالى‏:‏

‏{‏أَنِ اعبدوا الله‏}‏ مفسرة لتضمن الإرسال معنى القول أي قلنا لهم على لسان الرسول اعبدوا الله، وجوز كونها مصدرية ولا مانع من وصلها بفعل الأمر وقبلها جار مقدر أي أرسلنا فيهم رسولاً بأن اعبدوا الله وحده ‏{‏مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ‏}‏ الكلام فيه كالكلام في نظيره المار في قصة نوح عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالَ الملا‏}‏ أي الأشراف ‏{‏مِن قَوْمِهِ‏}‏ بيان لهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الاخرة‏}‏ أي بلقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب أو بالمعاد أو بالحياة الثانية صفة للملأ جىء بها ذماً لهم وتنبيهاً على غلوهم في الكفر، ويجوز أن تكون للتمييز إن كان في ذلك القرن من آمن من الأشراف، وتقديم ‏{‏مِن قَوْمِهِ‏}‏ هنا على الصفة مع تأخيره في القصة السابقة لئلا يطول الفصل بين البيان والمبين لو جىء به بعد الصفة وما في حيزها مما تعلق بالصلة مع ما في ذلك من توهم تعلقه بالدنيا أو يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه لو جىء به بعد الوصف وقبل العطف كذا قيل‏.‏

وتعقب بأنه لا حاجة إلى ارتكاب جعل ‏{‏الذين‏}‏ صفة للملأ وإبداء نكتة للتقديم المذكور مع ظهور جواز جعله صفة لقومه‏.‏ ورد بأن الداعي لارتكابه عطف قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأترفناهم فِى الحياة الدنيا‏}‏ أي نعمناهم ووسعنا عليهم فيها على الصلة فيكون صفة معنى للموصوف بالموصول والمتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين دون غيرهم وكذا الحال إذا لم يعطف وجعل حالاً من ضمير ‏{‏كَذَّبُواْ‏}‏ وأنت تعلم أنا لا نسلم أن المتعارف إنما هو وصف الأشراف بالمترفين ولئن سلمنا فوصفهم بذلك قد يبقى مع جعل الموصول صفة لقومه بأن يجعل جملة ‏{‏أترفناهم‏}‏ حالاً من ‏{‏ياأيها الملا‏}‏ بدون تقدير قد أو بتقديرها أي قال الملأ في حق رسولنا ‏{‏مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ‏}‏ الخ في حال إحساننا عليهم‏.‏

نعم الظاهر لفظاً عطف جملة ‏{‏أترفناهم‏}‏ على جملة الصلة، والأبلغ معنى جعلها حالاً من الضمير لإفادته الإساءة إلى من أحسن وهو أقوى في الذم، وجىء بالواو العاطفة في ‏{‏الفاتحين وَقَالَ الملا‏}‏ هنا ولم يجأ بها بل جىء بالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً في موضع آخر لأن ما نحن فيه حكاية لتفاوت ما بين المقالتين أعني مقالة المرسل ومقالة المرسل إليهم لا حكاية المقاولة لأن المرسل إليهم قالوا ما قالوا بعضهم لبعض وظاهر إباء ذلك الاستئناف وأما هنالك فيحق الاستئناف لأنه في حكاية المقاولة بين المرسل والمرسل إليهم واستدعاء مقام المخاطبة ذلك بين كذا في «الكشف»، ولا يحسم مادة السؤال إذ يقال معه‏:‏ لم حكى هنالك المقاولة وهنا التفاوت بين المقالتين ولم يعكس‏؟‏ ومثل هذا يرد على من علل الذكر هنا والترك هناك بالتفنن بأن يقال‏:‏ إنه لو عكس بأن ترك هنا وذكر هناك لحصل التفنن أيضاً، وأنا لم يظهر لي السر في ذلك، وأما الإتيان بالواو هنا والفاء في ‏{‏فَقَالَ الملا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 24‏]‏ في قصة نوح عليه السلام فقد قيل‏:‏ لعله لأن كلام الملأ هنا لم يتصل بكلام رسولهم بخلاف كلام قوم نوح عليه السلام والله تعالى أعلم بحقائق الأمور‏.‏

ولا يخفى ما في قولهم ‏{‏مَا هذا‏}‏ الخ من المبالغة في توهين أمر الرسول عليه السلام وتهوينه قاتلهم الله ما أجهلهم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ‏}‏ تقرير للمماثلة، والظاهر أن ‏{‏مَا‏}‏ الثانية موصولة والعائد إليها ضمير مجرور حذف مع الجار لدلالة ما قبله عليه والحذف هنا مثله في قولك‏:‏ مررت بالذي مررت في استيفاء الشرائط، وحسنه هنا كون ‏{‏تَشْرَبُونَ‏}‏ فاصلة‏.‏

وفي التحرير زعم الفراء حذف العائد المجرور مع الجار في هذه الآية وهذا لا يجوز عند البصريين، والآية إما لا حذف فيها أو فيها حذف المفعول فقط لأن ما إذا كانت مصدرية لم تحتج إلى عائد وإن كانت موصولة فالعائد المحذوف ضمير منصوب على المفعولية متصل بالفعل والتقدير مما تشربونه اه، وهذا تخريج على قاعدة البصريين ويفوت عليه فصاحة معادلة التركيب على أن الوجه الأول محوج إلى تأويل المصدر باسم المفعول وبعد ذلك يحتاج إلى تكلف لصحة المعنى ويحتاج إلى ذلك التكلف على الوجه الثاني أيضاً إذ لا يشرب أحد من مشروبهم ولا من الذي يشربونه وإنما يشرب من فرد آخر من الجنس فلا بد من إرادة الجنس على الوجهين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مّثْلَكُمْ‏}‏ فيما ذكر من الأحوال والصفات أي إن امتثلتم بأوامره ‏{‏إِنَّكُمْ إِذاً لخاسرون‏}‏ عقولكم ومغبونون في آرائكم حيث أذللتم أنفسكم، واللام موطئة للقسم وجملة ‏{‏إِنَّكُمْ لخاسرون‏}‏ جواب القسم، و‏{‏إِذَا‏}‏ فيما أميل إليه ظرفية متعلقة بما تدل عليه النسبة بين المبتدأ والخبر من الثبوت أو بالخبر واللام لا تمنع عن العمل في مثل ذلك، وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ ولو كان هذا هو الجواب للزمت الفاء فيه بأن يقال‏:‏ فإنكم الخ بل لو كان بالفاء في تركيب غير القرآن الكريم لم يكن ذلك التركيب جائزاً إلا عند الفراء، والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ اه‏.‏

وذكر بعضهم أن ‏{‏إِذَا‏}‏ هنا للجزاء والجواب وتكلف لذلك ولا يدعو إليه سوى ظن وجوب اتباع المشهور وأن الحق في أمثال هذه المقامات منحصر فيما عليه الجمهور، وفي «همع الهوامع» وكذا في «الإتقان» للجلال السيوطي في هذا البحث ما ينفعك مراجعته فراجعه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏أَيَعِدُكُمْ‏}‏ استئناف مسوق لتقرير ما قبله من زجرهم عن اتباعه عليه السلام بإنكار وقوع ما يدعوهم للإيمان به واستبعاده، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ على تقدير حرف الجر أي بأنكم، ويجوز أن لا يقدر نحو وعدتك الخير ‏{‏إِذَا مِتٌّمْ‏}‏ بكسر الميم من مات يمات، وقرىء بضمها من مات يموت ‏{‏وَكُنتُمْ تُرَاباً وعظاما‏}‏ أي وكان بعض أجزائكم من اللحم ونظائره تراباً وبعضها عظاماً نخرة مجردة عن اللحوم والأعصاب، وتقديم التراب لعراقته في الاستبعاد وانقلابه من الأجزاء البادية أو وكان متقدموكم تراباً صرفاً ومتأخروكم عظاماً، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ تأكيد لأنكم الأول لطول الفصل بينه وبين خبره الذي هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مُّخْرَجُونَ‏}‏ وإذا ظرف متعلق به أي أيعدكم أنكم مخرجون من قبوركم أحياء كما كنتم أولاً إذا متم وكنتم تراباً‏.‏

واختار هذا الإعراب الفراء‏.‏ والجرمي‏.‏ والمبرد، ولا يلزم من ذلك كون الإخراج وقت الموت كما لا يخفى خلافاً لما توهمه أبو نزار الملقب بملك النحاة‏.‏ ورده السخاوي ونقله عنه الجلال السيوطي في الأشباه والمنقول عن سيبويه أن ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ بدل من ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ الأول وفيه معنى التأكيد وخبر أن الأولى محذوف لدلالة خبر الثانية عليه أي أيعدكم أنكم تبعثون إذا متم وهذا الخبر المحذوف هو العامل في إذا، ولا يجوز أن يكون هو الخبر لأن ظرف الزمان لا يخبر به عن الجثة، وإذا أول بحذف المضاف أي إن إخراجكم إذا متم جاز، وكان المبرد يأبى البدل لكونه من غير مستقل إذ لم يذكر خبر أن الأولى‏.‏

وذهب الأخفش إلى أن ‏{‏أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ‏}‏ مقدر بمصدر مرفوع بفعل محذوف تقديره يحدث إخراجكم، فعلى هذا التقدير يجوز أن تكون الجملة الشرطية خبر ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ الأول ويكون جواب ‏{‏إِذَا‏}‏ ذلك الفعل المحذوف، ويجوز أن يكون ذلك الفعل هو خبر أن ويكون عاملاً في إذا، وبعضهم يحكي عن الأخفش أنه يجعل ‏{‏أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ‏}‏ فاعلاً بإذا كما يجعل الخروج في قولك‏:‏ يوم الجمعة الخروج فاعلاً بيوم على معنى يستقر الخروج يوم الجمعة‏.‏

وجوز بعضهم أن يكون ‏{‏أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ‏}‏ مبتدأ و‏{‏إِذَا مِتٌّمْ‏}‏ خبراً على معنى إخراجكم إذا متم وتجعل الجملة خبر أن الأولى، قال في «البحر»‏:‏ وهذا تخريج سهل لا تكلف فيه ونسبه السخاوي في سفر السعادة إلى المبرد، والذي يقتضيه جزالة النظم الكريم ما ذكرناه عن الفراء ومن معه‏.‏ وفي قراءة عبد الله ‏{‏أَيَعِدُكُمْ إِذَا مِتٌّمْ‏}‏ بإسقاط ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ الأولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏هَيْهَاتَ‏}‏ اسم لبعد وهو في الأصل اسم صوت وفاعله مستتر فيه يرجع للتصديق أو الصحة أو الوقوع أو نحو ذلك مما يفهمه السياق فكأنه قيل بعد التصديق أو الصحة أو الوقوع، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَيْهَاتَ‏}‏ تكرير لتأكيد البعد، والغالب في هذه الكلمة مجيئها مكررة وجاءت غير مكررة في قول جرير‏:‏ وهيهات خل بالعقيق نواصله *** وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لِمَا تُوعَدُونَ‏}‏ بيان لمرجع ذلك الضمير فاللام متعلقة بمقدر كما في سقيا له أي التصديق أو الوقوع المتصف بالبعد كائن لما توعدون، ولا ينبغي أن يقال‏:‏ إنه متعلق بالضمير الراجع إلى المصدر كما في قوله‏:‏ وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم *** وما هو عنها بالحديث المرجم

فإن إعمال ضمير المصدر وإن ذهب إليه الكوفيون نادر جداً لا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى، وقيل‏:‏ لم يثبت والبيت قابل للتأويل وهذا كله مع كون الضمير بارزاً فما ظنك إذا كان مستتراً، والقول بأن الفاعل محذوف وليس بضمير مستتر وهو مصدر كالوقوع والتصديق والجار متعلق به مما لا ينبغي أن يلتفت إليه أصلاً لا سيما إذا كان ذلك المصدر المحذوف معرفاً كما لا يخفى، ويجوز أن يكون الفاعل ضمير البعد واللام للبيان كأنه قيل، فعل البعد ووقع ثم قيل لماذا‏؟‏ فقيل‏:‏ لما توعدون، وقيل‏:‏ فاعل ‏{‏هَيْهَاتَ‏}‏ ما توعدون واللام سيف خطيب، وأيد بقراءة ابن أبي عبلة ‏{‏هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ مَا‏}‏ بغير لام‏.‏ ورد بأنها لم تعهد زيادتها في الفاعل، وقيل‏:‏ هيهات بمعنى البعد وهو مبتدأ مبني اعتباراً لأصله خبره ‏{‏هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ‏}‏ أي البعد كائن لما توعدون ونسب هذا التفسير للزجاج‏.‏

وتعقبه في «البحر» بأنه ينبغي أن يكون تفسير معنى لا تفسير إعراب لأنه لم تثبت مصدرية ‏{‏هَيْهَاتَ‏}‏‏.‏

وقرأ هارون عن أبي عمرو ‏{‏هيهاتا هيهاتا‏}‏ بفتحهما منونتين للتنكير كما في سائر أسماء الأفعال إذا نونت فهو اسم فعل نكرة، وقيل‏:‏ هو على هذه القراءة اسم متمكن منصوب على المصدرية‏.‏ وقرأ أبو حيوة‏.‏ والأحمر بالضم والتنوين، قال صاحب اللوامح‏:‏ يحتمل على هذا أن تكون ‏{‏أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ هَيْهَاتَ‏}‏ اسماً متمكناً مرتفعاً بالابتداء و‏{‏لِمَا تُوعَدُونَ‏}‏ خبره والتكرار للتأكيد، ويحتمل أن يكون اسماً للفعل والضم للبناء مثل حوب في زجر الإبل لكنه نون لكونه نكرة اه، وقيل‏:‏ هو اسم متمكن مرفوع على الفاعلية أي وقع بعد، وعن سيبويه أنها جمع كبيضات، وأخذ بعضهم منه تساوى مفرديهما في الزنة فقال مفردها هيهة كبيضة‏.‏ وفي رواية عن أبي حيوة أنه ضمهما من غير تنوين تشبيهاً لهما بقبل وبعد في ذلك‏.‏

وقرأ أبو جعفر‏.‏ وشيبة بالكسر فيهما من غير تنوين، وروي هذا عن عيسى وهو لغة في تميم‏.‏ وأسد‏.‏ وعنه أيضاً عن خالد بن الياس أنهما قرآ بكسرهما والتنوين‏.‏

وقرأ خارجة بن مصعب عن أبي عمرو‏.‏ والأعرج‏.‏ وعيسى أيضاً بالإسكان فيهما، فمنهم من يبقى التاء ويقف عليها كما في مسلمات، ومنهم من يبدلها هاء تشبيهاً بتاء التأنيث ويقف على الهاء، وقيل‏:‏ الوقف على الهاء لاتباع الرسم، والذي يفهم من «مجمع البيان» أن ‏{‏هَيْهَاتَ‏}‏ بالفتح تكتب بالهاء كأرطاة وأصلها هيهية كزلزلة قلبت الياء الثانية ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها وكذا هيهات بالرفع والتنوين، وهي على هذا اسم معرب مفرد، ومتى اعتبرت جمعاً كتبت بالتاء وذلك إذا كانت مكسورة منونة أو غير منونة ونقل ذلك عن ابن جني‏.‏

وقرأ ‏{‏أيهاه‏}‏ بإبدال الهمزة من الهاء الأولى والوقف بالسكون على الهاء، والذي أميل إليه أن جميع هذه القراءات لغات والمعنى واحد، وفي هذه الكلمة ما يزيد على أربعين لغة وقد ذكر ذلك في التكميل لشرح التسهيل وغيره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ أصله إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع الضمير موضع الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها فالضمير عائد على متأخر وعوده كذلك جائز في صور، منها إذا فسر بالخبر كما هنا كذا قالوا‏.‏ واعترض بأن الخبر موصوف فتلاحظ الصفة في ضميره كما هو المشهور في الضمير الراجع إلى موصوف وحينئذٍ يصير التقدير إن حياتنا الدنيا إلا حياتنا الدنيا‏.‏

وأجيب بأن الضمير قد يعود إلى الموصوف بدون صفته، وهذا في الآخرة يعود إلى القول بأن الضمير عائد على ما يفهم من جنس الحياة ليفيد الحمل ما قصدوه من نفي البعث فكأنهم قالوا‏:‏ لا حياة إلا حياتنا الدنيا ومن ذلك يعلم خطأ من قال‏:‏ إنه كشعري شعري، ومن هذا القبيل على رأي قولهم‏:‏ هي العرب تقول ما شاءت، وقوله‏:‏ هي النفس ما حملتها تتحمل *** وللدهر أيام تجوز وتعدل

وفي «الكشف» ليس المعنى النفس النفس لأنه لا يصلح الثاني حينئذٍ تفسيراً والجملة بعدها بياناً بل الضمير راجع إلى معهود ذهني أشير إليه ثم أخبر بما بعده كما في هذا أخوك انتهى فتأمل ولا تغفل‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏نَمُوتُ وَنَحْيَا‏}‏ جملة مفسرة لما ادعوه من أن الحياة هي الحياة الدنيا وأرادوا بذلك يموت بعضنا ويولد بعض وهكذا، وليس المراد بالحياة حياة أخرى بعد الموت إذ لا تصلح الجملة حينئذٍ للتفسير ولا يذم قائلها وناقضت قولهم‏:‏ ‏{‏وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ‏}‏ وقيل‏:‏ أرادوا بالموت العدم السابق على الوجود أو أرادوا بالحياة بقاء أولادهم فإن بقاء الأولاد في حكم حياة الآباء ولا يخفى بعده، ومثله على ما قيل وأنا لا أراه كذلك أن القوم كانوا قائلين بالتناسخ فحياتهم بتعلق النفس التي فارقت أبدانهم بأبدان أخر عنصرية تنقلت في الأطوار حتى استعدت لأن تتعلق بها تلك النفس المفارقة فزيد مثلاً إذا مات تتعلق نفسه ببدن آخر قد استعد في الرحم للتعلق ثم يولد فإذا مات أيضاً تتعلق نفسه ببدن آخر كذلك وهكذا إلى ما لا يتناهى، وهذا مذهب لبعض التناسخية وهم مليون ونحليون، ويمكن أن يقال‏:‏ إن هذا على حد قوله تعالى لعيسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏ على قول فإن العطف فيه بالواو وهي لا تقتضي الترتيب فيجوز أن تكون الحياة التي عنوها الحياة التي قبل الموت ويحتمل أنهم قالوا نحيا ونموت إلا أنه لما حكى عنهم قيل‏:‏ ‏{‏نَمُوتُ وَنَحْيَا‏}‏ ليكون أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنْ هِىَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا‏}‏ ثم المراد بقولهم ‏{‏وَمَا نَحْنُ‏}‏ الخ استمرار النفي وتأكيده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏إِنْ هُوَ‏}‏ أي ما هو ‏{‏إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً‏}‏ فيما يدعيه من إرساله تعالى إياه وفيما يعدنا من أن الله تعالى يبعثنا ‏{‏وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ بمصدقين فيما يقوله، والمراد أيضاً استمرار النفي وتأكيده‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي رسولهم عند يأسه من إيمانهم بعدما سلك في دعوتهم كل مسلم متضرعاً إلى الله عز وجل ‏{‏رَبّ انصرنى‏}‏ عليهم وانتقم لي منهم ‏{‏بِمَا كَذَّبُونِ‏}‏ أي بسبب تكذيبهم إياي وإصرارهم عليه أو بدل تكذيبهم، ويجوز أن تكون الباء آلية وما موصولة كما مر في قصة نوح عليه السلام ‏{‏قَالَ‏}‏ تعالى إجابة لدعائه وعدة بما طلب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏عَمَّا قَلِيلٍ‏}‏ أي عن زمان قليل فما صلة بين الجار والمجرور جيء بها لتأكيد معنى القلة و‏{‏قَلِيلٌ‏}‏ صفة لزمان حذف واستغنى به عنه ومجيئه كذلك كثير، وجوز أن تكون ‏{‏مَا‏}‏ نكرة تامة و‏{‏قَلِيلٌ‏}‏ بدلاً منها، وأن تكون نكرة موصوفة بقليل، و‏{‏عَنْ‏}‏ بمعنى بعد هنا وهي متعلق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّيُصْبِحُنَّ نادمين‏}‏ وتعلقها بكل من الفعل والوصف محتمل، وجاز ذلك مع توسط لام القسم لأن الجار كالظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره‏.‏

وقال أبو حيان‏:‏ جمهور أصحابنا على أن لام القسم لا يتقدمها معمول ما بعدها سواء كان ظرفاً أم جاراً ومجروراً أو غيرهما، وعليه يكون ذلك متعلقاً بمحذوف يدل عليه ما قبله والتقدير عما قليل تنصر أو ما بعده أي يصبحون عما قليل ليصبحن الخ، ومذهب الفراء‏.‏ وأبي عبيدة أنه يجوز تقديم معمول ما في حيز هذه اللام عليها مطلقاً، و‏{‏يُصْبِحَ‏}‏ بمعنى يصير أي بالله تعالى ليصيرن نادمين على ما فعلوا من التكذيب بعد زمان قليل وذلك وقت نزول العذاب في الدنيا ومعاينتهم له، وقيل‏:‏ بعد الموت، وفي «اللوامح» عن بعضهم ‏{‏لتصبحن‏}‏ بتاء على المخاطبة فلو ذهب ذاهب إلى أن القول من الرسول إلى الكفار بعدما أجيب دعاؤه لكان جائزاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏نادمين فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة‏}‏ أي صيحة جبريل عليه السلام صاح عليه السلام بهم فدمرهم، وهذا على القول بأن القرن قوم صالح عليه السلام ظاهر، ومن قال‏:‏ إنهم قوم هود عليه السلام أشكل ظاهر هذا عليه بناءاً على أن المصرح به في غير هذه السورة أنهم أهلكوا بريح عاتية، وأجاب بأن جبريل عليه السلام صاح بهم من الريح كما روى في بعض الأحاديث، وفي ذكر كل على حدة إشارة إلى أن كلا لو انفرد لتدميرهم لكفى، ويجوز أن يراد بالصيحة العقوبة الهائلة والعذاب المصطلم كما في قوله‏:‏ صاح الزمان بآل برمك صيحة *** خروا لشدتها على الأذقان

‏{‏بالحق‏}‏ متعلق بالأخذ أي بالأمر الثابت الذي لا مدفع له كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقّ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 19‏]‏ أو بالعدل من الله عز وجل من قولك‏:‏ فلان يقضي بالحق إذا كان عادلاً في قضاياه أو بالوعد الصدق الذي وعده الرسول في ضمن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نادمين‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏فجعلناهم غُثَاء‏}‏ أي كغثاء السيل وهو ما يحمله من الورق والعيدان البالية ويجمع على أغثاء شذوذاً وقد تشدد ثاؤه كما في قول امرىء القيس‏:‏ كأن ذرى رأس المجيمر غدوة *** من السيل والغثاء فلكة مغزل

‏{‏فَبُعْداً لّلْقَوْمِ الظالمين‏}‏ يحتمل الاخبار والدعاء، والبعد ضد القرب والهلاك وفعلهما ككرم وفرح والمتعارف الأول في الأول والثاني في الثاني وهو منصوب بمقدر أي بعدوا بعداً من رحمة الله تعالى أو من كل خير أو من النجاة أو هلكوا هلاكاً، ويجب حذف ناصب هذا المصدر عند سيبويه فيما إذا كان دعائياً كما صرح به في «الدر المصون»، واللام لبيان من دعى عليه أو أخبر ببعده فهي متعلقة بمحذوف لا ببعداً، ووضع الظاهر موضع الضمير إيذاناً بأن إبعادهم لظلمهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آَخَرِينَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ‏}‏ أي بعد هلاكهم ‏{‏قُرُوناً ءاخَرِينَ‏}‏ هم عند أكثر المفسرين قوم صالح‏.‏ وقوم لوط‏.‏ وقوم شعيب وغير ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا‏}‏ أي ما تتقدم أمة من الأمم المهلكة الوقت الذي عين لهلاكهم فمن سيف خطيب جيء بها لتأكيد الاستغراق المستفاد من النكرة الواقعة في سياق النفي، وحاصل المعنى ما تهلك أمة من الأمم قبل مجيء أجلها ‏{‏وَمَا يَسْتَئَخِرُونَ‏}‏ ذلك الأجل ساعة، وضمير الجمع عائد على ‏{‏أُمَّةٍ‏}‏ باعتبار المعنى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا‏}‏ عطف على ‏{‏أَنشَأْنَا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 42‏]‏ لكن لا على معنى أن إرسالهم متراخ عن إنشاء القرون المذكورة جميعاً بل على معنى أن إرسال كل رسول متأخر عن إرسال قرن مخصوص بذلك الرسول كأنه قيل‏:‏ ثم أنشأنا من بعدهم قروناً آخرين قد أرسلنا إلى كل قرن منهم رسولاً خاصاً به، والفصل بين المعطوفين بالجملة المعترضة للمسارعة إلى بيان هلاك أولئك القرون على وجه إجمالي، وتعليق الإرسال بالرسل نظير تعليق القتل بالقتيل في من قتل قتيلاً وللعلماء فيه توجيهات ‏{‏تَتْرَا‏}‏ من المواترة وهو التتابع مع فصل ومهلة على ما قاله الأصمعي‏.‏ واختاره الحريري في الدرة‏.‏

وفي «الصحاح المواترة» المتابعة ولا تكون المواترة بين الأشياء إلا إذا وقعت بينها فترة وإلا فهي مداركة ومثله في «القاموس»، وعن أبي علي أنه قال‏:‏ المواترة أن يتبع الخبر الخبر والكتاب الكتاب فلا يكون بينهما فصل كثير، ونقل في «البحر» عن بعض أن المواترة التتابع بغير مهلة، وقيل‏:‏ هو التتابع مطلقاً، والتاء الأولى يدل من الواو كما في تراث وتجاه ويدل على ذلك الاشتقاق، وجمهور القراء‏.‏ والعرب على عدم تنوينه فالفه للتأنيث كالف دعوى وذكرى وهو مصدر في موضع الحال والظاهر أنه حال من المفعول، والمراد كما قال أبو حيان‏.‏ والراغب‏.‏ وغيرهما ثم أرسلنا رسلنا متواترين، وقيل‏:‏ حال من الفاعل والمراد أرسلنا متواترين‏.‏

وقيل هو صفة لمصدر مقدر أي إرسالاً متواتراً، وقيل مفعول مطلق لأرسلنا لأنه بمعنى واترنا‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ وقتادة‏.‏ وأبو جعفر‏.‏ وشعبة‏.‏ وابن محيصن‏.‏ والإمام الشافعي عليه الرحمة ‏{‏رُسُلَنَا تَتْرَى‏}‏ بالتنوين وهو لغة كنانة، قال في «البحر»‏:‏ وينبغي عند من ينون أن تكون الألف فيه للإلحاق كما في أرطى وعلقى لكن ألف الإلحاق في المصادر نادرة، وقيل‏:‏ إنها لا توجد فيها‏.‏

وقال الفراء‏:‏ يقال تتر في الرفع وتتر في الجر وتتراً في النصب فهو مثل صبر ونصر ووزنه فعل لا فعلي ومتى قيل تترى بالألف فألفه بدل التنوين كما في صبرت صبراً عند الوقف‏.‏ ورد بأنه لم يسمع فيه إجراء الحركات الثلاث على الراء وعلى مدعيه الإثبات‏.‏ وأيضاً كتبه بالياء يأبى ذلك، وما ذكرنا من مصدرية ‏{‏تَتْرَى‏}‏ هو المشهور، وقيل‏:‏ هو جمع، وقيل‏:‏ اسم جمع وعلى القولين هو حال أيضاً‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلَّ مَا جَاء أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ‏}‏ استئناف مبين لمجيء كل رسول لأمته ولما صدر عنهم عند تبليغ الرسالة، والمراد بالمجيء إما التبليغ وإما حقيقة المجيء للإيذان بأنهم كذبوه في أول الملاقاة، وإضافة الرسول إلى الأمة مع إضافة كلهم فيما سبق إلى نون العظمة لتحقيق أن كل رسول جاء أمته الخاصة به لا أن كلهم جاؤا كل الأمم وللإشعار بكمال شناعة المكذبين وضلالهم حيث كذبوا الرسول المعين لهم، وقيل‏:‏ أضاف سبحانه الرسول مع الإرسال إليه عز وجل ومع المجيء إلى المرسل إليهم لأن الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه تعالى والمجيء الذي هو منتهاه إليهم ‏{‏فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً‏}‏ في الهلاك حسبما تبع بعضهم بعضاً في مباشرة سببه وهو تكذيب الرسول ‏{‏وجعلناهم أَحَادِيثَ‏}‏ جمع أحدوثه وهو ما يتحدث به تعجباً وتلهياً كأعاجيب جمع أعجوبة وهو ما يتعجب منه أي جعلناهم أحاديث يتحدث بها على سبيل التعجب والتلهي، ولا تقال الأحدوثة عند الأخفش إلا في الشر‏.‏

وجوز أن يكون جمع حديث وهو جمع شاذ مخالف للقياس كقطيع وأقاطيع ويسميه الزمخشري اسم جمع، والمراد إنا أهلكناهم ولم يبق إلا خبرهعم ‏{‏فَبُعْداً لّقَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ‏}‏ اقتصر ههنا على وصفهم بعدم الايمان حسبما اقتصر على حكاية تكذيبهم إجمالاً، وأما القرون الأولون فحيث نقل عنهم ما مر من الغلو وتجاوز الحد في الكفر والعدوان وصفوا بالظلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏ثُمَّ أَرْسَلْنَا موسى وَأَخَاهُ هارون بئاياتنا‏}‏ أي بالآيات المعهودة وهي الآيات التسع وقد تقدم الكلام في تفصيلها وما قيل فيه، و‏{‏هارون‏}‏ بدل أو عطف بيان، وتعرض لإخوته لموسى عليهما السلام للإشارة إلى تبعيته له في الإرسال ‏{‏وسلطان مُّبِينٍ‏}‏ أي حجة واضحة أو مظهرة للحق، والمراد بها عند جمع العصا، وأفرادها بالذكر مع اندراجها في الآيات لتفردها بالمزايا حتى صارت كأنها شيء آخر، وجوز أن يراد بها الآيات والتعاطف من تعاطف المتحدين في الماصدق لتغاير مدلوليهما كعطف الصفة على الصفة مع اتحاد الذات وقد مر نظيره آنفاً أو هو من باب قولك‏:‏ مررت بالرجل والنسمة المباركة حيث جرد من نفس الآيات سلطان مبين وعطف عليه مبالغة، والاتيان به مفرداً لأنه مصدر في الأصل أو للاتحاد في المراد، وعن الحسن أن المراد بالآيات التكاليف الدينية وبالسلطان المبين المعجز، وقال أبو حيان‏:‏ يجوز أن يراد بالآيات نفس المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها لأنها وإن شاركت آيات الأنبياء عليهم السلام في أصل الدلالة على الصدق فقد فارقتها في قوة دلالتها على ذلك وهو كما ترى، ويمكن أن يقال‏:‏ المراد بالسلطان تسلط موسى عليه السلام في المحاورة والاستدلال على الصانع عز وجل وقوة الجاش والإقدام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏إلى فِرْعَوْنَ‏}‏ أي إشراف قومه خصوا بالذكر لأن إرسال بني إسرائيل وهو مما أرسلا عليهما السلام لأجله منوط بآرائهم، ويمكن أن يراد بالملأ قومه فقد جاء استعماله بمعنى الجماعة مطلقاً ‏{‏عَادٌ فاستكبروا‏}‏ عن الانقياد لما أمروا به ودعوا إليه من الايمان وإرسال بني إسرائيل وترك تعذيبهم، وليست الدعوة مختصة بإرسال بني إسرائيل وإطلاقهم من الأسر ففي سورة ‏[‏النازعات‏:‏ 71 91‏]‏ ‏{‏اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبّكَ فتخشى‏}‏ وأيضاً فيما نحن فهي ما يدل على عدم الاختصاص‏.‏

‏{‏وَكَانُواْ قَوْماً عالين‏}‏ متكبرين أو متطاولين بالبغي والظلم؛ والمراد كانوا قوماً عادتهم العلو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَالُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏استكبروا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 46‏]‏ وما بينهما اعتراض مقرر للاستكبار، والمراد فقالوا فيما بينهم بطريق المناصحة ‏{‏أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا‏}‏ ثنى البشر لأنه يطلق على الواحد كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بَشَراً سَوِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 17‏]‏ ويطلق على الجمع كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 26‏]‏ ولم يثن مثل نظراً إلى كونه في حكم المصدر، ولو أفرد البشر لصح لأنه اسم جنس يطلق على الواحد وغيره، وكذا لو ثنى المثل فإنه جاء مثنى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَرَوْنَهُمْ مّثْلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 13‏]‏ ومجموعاً في قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أمثالكم‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 38‏]‏ نظراً إلى أنه في تأويل الوصف إلا أن المرجح لتثنية الأول وإفراد الثاني الإشارة بالأول إلى قلتهما وانفراهدما عن قومهما مع كثرة الملأ واجتماعهم وبالثاني إلى شدة تماثلهم حتى كأنهم مع البشرين شيء واحد وهوأدل على ما عنوه‏.‏

وهذه القصص كما ترى تدل على أن مدار شبه المنكرين للنبوة قياس حال الأنبياء عليهم السلام على أحوالهم بناء على جهلهم بتفاصيل شؤن الحقيقة البشرية وتباين طبقات أفرادها في مراقي الكمال ومهاوي النقصان بحيث يكون بعضها في أعلى عليين وهم المختصون بالنفوس الزكية المأيدون بالقوة القدسية المتعلقون لصفاء جواهرهم بكلا العالمين اللطيف والكثيف فيتلقون من جانب ويلقون إلى جانب ولا يعوقهم التعلق بمصالح الخلق عن التبتل إلى حضرة الحق وبعضها في أسفل سافلين وهم كأولئك الجهلة الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً‏.‏

ومن العجب أنهم لم يرضوا للنبوة ببشر، وقد رضى أكثرهم للإلهية بحجر فقاتلهم الله تعالى ما أجهلهم، والهمزة للإنكار أي لا نؤمن لبشرين مثلنا ‏{‏وَقَوْمُهُمَا‏}‏ يعنون سائر بني إسرائيل ‏{‏لَنَا عابدون‏}‏ خادمون منقادون لنا كالعبيد ففي ‏{‏عابدون‏}‏ استعارة تبعية نظراً إلى متعارف اللغة‏.‏

ونقل الخفاجي عن الراغب أنه صرح بأن العابد بمعنى الخادم حقيقة، وقال أبو عبيدة‏:‏ العرب تسمى كل من دان للملك عابداً، وجوز الزمخشري الحمل على حقيقة العبادة فإن فرعون كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة على الحقيقة‏.‏

واعترض بأن الظاهر أن هذا القول من الملأ وهو يأبى ذلك، وكونهم قالواه على لسان فرعون كما يقول خواص ملك‏:‏ نحن ذوو رعية كثيرة وملك طويل عريض ومرادهم إن ملكنا ذو رعية الخ خلاف الظاهر، وقيل عليه أيضاً على تقدير أن يكون القائل فرعون‏:‏ لا يلزم من ادعائه الإلهية عبادة بني إسرائيل له أو كونه يعتقد أو يدعي عبادتهم على الحقيقة له؛ وأنت تعلم أنه متى سلم أن القائل فرعون وأنه يدعي الإلهية لا يقدح في إرادته حقيقة العبادة عدم اعتقاده ذلك لأنه على ما تدل عليه بعض الآثار كثيراً ما يظهر خلاف ما يبطن حتى أنها تدخل على أن دعواه الإلهية من ذلك، نعم الأولى تفسير ‏{‏عابدون‏}‏ بخادمون وهو مما يصح إسناده إلى فرعون وملئه، وكأنهم قصدوا بذلك التعريض بشأن الرسولين عليهما السلام وحط رتبتهما العلية عن منصب الرسالة من وجه آخر غير البشرية، واللام في ‏{‏لَنَا‏}‏ متعلقة بعابدون قدمت عليه رعاية للفواصل، وقيل للحصر أي لنا عابدون لا لهما، والجملة حال من فاعل ‏{‏نُؤْمِنُ‏}‏ مؤكدة لإنكار الايمان لهما بناء على زعمهم الفاسد المؤسس على قياس الرياسة الدينية على الرياسة الدنيوية الدائرة على التقدم في نيل الحظوظ الدنيوية من المال والجاه كدأب قريش حيث قالوا‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ وجهلهم بأن مناط الاصطفاء للرسالة هو السبق في حيازة النعوت العلية والملكات السنية التي يتفضل الله تعالى بها على من يشاء من خلقه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏فَكَذَّبُوهُمَا‏}‏ فاستمروا على تكذيبهما وأصروا واستكبروا استكباراً ‏{‏فَكَانُواْ مِنَ المهلكين‏}‏ بالغرق في بحر القلزم، والتعقيب باعتبار آخر زمان التكذيب الذي استمروا عليه، وقيل‏:‏ تعقيب التكذيب بذلك بناء على أن المراد محكوم عليهم بالإهلاك، وقيل‏:‏ الفاء لمحض السببية أي فكانوا بسبب تكذيب الرسولين من المهلكين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا‏}‏ بعد إهلاكهم وإنجاء بني إسرائيل من مملكتهم ‏{‏مُوسَى الكتاب‏}‏ أي التوراة، وحيث كان إيتاؤه عليه السلام إياها لإرشاد قومه إلى الحق كما هو شأن الكتب الإلهية جعلوا كأنهم أوتوها فقيل‏:‏ ‏{‏لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ‏}‏ أي إلى طريق الحق علماً وعملاً لما تضمنته من الاعتقاديات والعمليات‏.‏

وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي آتينا قوم موسى وضمير ‏{‏لَعَلَّهُمْ‏}‏ عائد عليه، وقيل أريد بموسى عليه السلام قومه كما يقال تميم وثقيف للقبيلة‏.‏ وتعقب بأن المعروف في مثله إطلاق أبي القبيلة عليهم وإطلاق موسى عليه السلام على قومه ليس من هذا القبيل وإن كان لا مانع منه، ولم يجعل ضمير ‏{‏لَعَلَّهُمْ‏}‏ لفرعون وملئه لظهور أن التوراة إنما نزلت بعد إغراقهم لبني إسرائيل وقد يستشهد على ذلك بقوله تعلاى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا القرون الاولى‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 43‏]‏ بناء على أن المراد بالقرون الأولى ما يعم فرعون وقومه ومن قبلهم من المهلكين كقوم نوح وهود لا ما يخص من قبلهم من الأمم المهلكين لأن تقييد الأخبار بإتيانه عليه السلام الكتاب بأنه بعد إهلاك من تقدم من الأمم معلوم فلو لم يدخل فرعون وقومه لم يكن فيه فائدة كما قيل، ولم يذكر هرون مع موسى عليهما السلام اقتصاراً على من هو كالأصل في الايتاء، وقيل لأن الكتاب نزل بالطور وهرون عليه السلام كان غائباً مع بني إسرائيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً‏}‏ أية آية دالة على عظيم قدرتنا بولادته منها من غير مسيس بشر فالآية أمر واحد مشترك بينهما فلذا أفردت، وجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي جعلنا حال ابن مريم وأمه آية أو جعلنا ابن مريم وأمه ذوي آية وأن يكون على حذف آية من الأول لدلالة الثاني عليه أو بالعكس أي جعلنا ابن مريم آية لما ظهر فيه عليه السلام من الخوارق كتكلمه في المهد بما تكلم صغيراً وإحيائه الموتى وإبرائه الأكمه والأبرص وغير ذلك كبيراً وجعلنا أمه آية بأن ولدت من غير مسيس، وقال الحسن‏:‏ إنها عليها السلام تكلمت في صغرها أيضاً حيث قالت‏:‏ ‏{‏هُوَ مِنْ عِندِ الله إنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 37‏]‏ ولم تلتقم ثدياً قط، وقال الخفاجي‏:‏ لك أن تقول‏:‏ إنما يحتاج إلى توجيه إفراد الآية بما ذكر إذا أريد أنها آية على قدرة الله تعالى أما إذا كانت بمعنى المعجزة أو الإرهاص فلا لأنها إنما هي لعيس عليه السلام لنبوته دون مريم اه‏.‏ ولا يخفى ما فيه والوجه عندي ما تقدم، والتعبير عن عيسى عليه السلام بابن مريم وعن مريم بأمه للإيذان من أول الأمر بحيثية كونهما آية فإن نسبته عليه السلام إليها مع أن النسب إلى الآباء دالة على أن لا أب له أي جعلنا ابن مريم وحدها من غير أن يكون له أب وأمه التي ولدته خاصة من غير مشاركة الأب آية، وتقديمه عليه السلام لأصالته فيما ذكر من كونه آية كما قيل أن تقديم أمه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلناها وابنها ءايَةً للعالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 91‏]‏ لأصالتها فيما نسب إليها من الإحصان والنفخ، ثم اعلم أن الذي أجمع عليه الإسلاميون أنه ليس لمريم ابن سوى عيسى عليه السلام‏.‏

وزعم بعض النصارى قاتلهم الله تعالى أنها بعد أن ولدت عيسى تزوجت بيوسف النجار وولدت منه ثلاثة أبناء، والمعتمد عليه عندهم أنها كانت في حال الصغر خطيبة يوسف النجار وعقد عليها ولم يقربها ولما رأى حملها بعيسى عليه السلام هم بتخليتها فرأى في المنام ملكاً أوقفه على حقيقة الحال فلما ولدت بقيت عنده مع عيسى عليه السلام فجعل يربيه ويتعهده مع أولاد له من زوجة غيرها فأما هي فلم يكن يقربها أصلاً‏.‏ والمسلمون لا يسلمون أنها كانت معقوداً عليها ليوسف ويسلمون أها كانت خطيبته وأنه تعهدها وتعهد عيسى عليه السلام ويقولون‏:‏ كان ذلك لقرابته منها ‏{‏وءاويناهما‏}‏ أي جعلناهما يأويان ‏{‏إلى رَبْوَةٍ‏}‏ هي ما ارتفع من الأرض دون الجبل‏.‏

واختلف في المراد بها هنا فاخرج وكيع‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ وابن المنذر‏.‏

وابن عساكر بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى رَبْوَةٍ‏}‏ أنبئنا أنها دمشق، وأخرج ابن عساكر عن عبد الله بن سلام وعن يزيد بن شجرة الصحابي وعن سعيد بن المسيب وعن قتادة عن الحسن أنهم قالوا‏:‏ الربوة هي دمشق، وفي ذلك حديث مرفوع أخرجه ابن عساكر عن أبي أمامة بسند ضعيف‏.‏

وأخرج جماعة عن أبي هريرة أنه قال‏:‏ هي الرملة من فلسطين، وأخرج ذلك ابن مردويه من حديثه مرفوعاً، وأخرج الطبراني في «الأوسط»‏.‏ وجماعة عن مرة البهزي قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ الربوة الرملة، وأخرج ابن جرير‏.‏ وغيره عن الضحاك أنه قال‏:‏ هي بيت المقدس، وأخرج هو وغيره أيضاً عن قتادة أنه قال‏:‏ كنا نحدث أن الربوة بيت المقدس، وذكروا عن كعب أن أرضه كبد الأرض وأقربها إلى السماء بثمانية عشر ميلاً ولذا كان المعراج ورفع عيسى عليه السلام منه، وهذا القول أوفق بإطلاق الربوة على ما سمعت من معناها، وأخرج ابن المنذر‏.‏ وغيره عن وهب‏.‏ وابن جرير‏.‏ وغيره عن ابن زيد الربوة مصر، وروى عن زيد بن أسلم أنه قال‏:‏ هي الإسكندرية، وذكروا أي قرى مصر كل واحدة منها على ربوة مرتفعة لعموم النيل في زيادته جميع أرضها فلو لم تكن القرى على الربى لغرقت، وذكر أن سبب هذا الإيواء أن ملك ذلك الزمان عزم على قتل عيسى عليه السلام ففرت به أمه إلى أحد هذه الأماكن التي ذكرت كذا في «البحر»، ورأيت في إنجيل متى أن عيسى عليه السلام لما ولد في بيت لحم في أيام هيرودس الملك وافى جماعة من المجوس من المشرق إلى أورشليم يقولون‏:‏ أين المولود ملك اليهود فقد رأينا نجمه في المشرق وجئنا لنسجد له فلما سمع هيرودس اضطرب وجمع رؤساء الكهنة وكتبة الشعب فسألهم أين يولد المسيح‏؟‏ فقالوا‏:‏ في بيت لحم فدعا المجوس سراً وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وأرسلهم إلى بيت لحم وقال لهم‏:‏ اجهدوا في البحث عن هذا المولود فإذا وجدتموه فأخبروني لأسجد له معكم فذهبوا فوجدوه مع مريم فسجدوا وقربوا القرابين ورأوا في المنام أن لا يرجعوا إلى هيرودس فذهبوا إلى كورتهم ورأى يوسف في المنام ملكاً يقول له قم فخذ الطفل وأمه واهرب إلى مصر وكن هناك حتى أقول لك فإن هيرودس قد عزم على أن يطلب الطفل ليهلكه فقام وأخذ الطفل وأمه ليلاً ومضى إلى مصر وكان هناك إلى وفاة هيرودس فلما توفى رأى يوسف الملك في المنام يقول له‏:‏ قم فخذ الطفل وأمه واذهب إلى أرض إسرائيل فقد مات من يطلب نفس الطفل فقام وأخذهما وجاء إلى أرض إسرائيل فلما سمع أن أرشلاوس قد ملك على اليهودية بعد أبيه هيرودس خاف أن يذهب هناك فأخبر في المنام وذهب إلى تخوم الجليل فسكن في مدينة تدعى ناصرة اه، فإن صح هذا كان الظاهر أن الربوة في أرض مصر أو ناصرة من أرض الشام والله تعالى أعلم‏.‏

وقرأ أكثر القراء ‏{‏رَبْوَةٍ‏}‏ بضم الراء وهي لغة قريش‏.‏

وقرأ أبو إسحق السبيعي ‏{‏رَبْوَةٍ‏}‏ بكسرها، وابن أبي إسحق ‏{‏رباة‏}‏ بضم الراء وبالألف، وزيد بن على رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والأشهب العقيلي‏.‏ والفرزدق‏.‏ والسلمي في نقل «صاحب اللوامح» بفتحه وبالألف‏.‏ وقرىء بكسرها وبالألف ‏{‏رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ‏}‏ أي مستقر من أرض منبسطة، والمراد أنها في واد فسيح تنبسط به نفس من يأوى إليه، وقال مجاهد‏:‏ ذات ثمار وزروع، والمراد أنها محل صالح لقرار الناس فيه لما فيه من الزروع والثمار وهو أنسب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَعِينٍ‏}‏ أي وماء معين أي جار، ووزنه فعيل على أن الميم أصلية من معنى بمعنى جرى، وأصله الإبعاد في الشيء ومنه أمعن النظر‏.‏

وفي «البحر» معن الشيء معانة كثر أو من الماعون، وإطلاقه على الماء الجاري لنفعه، وجوز أن يكون وزنه مفعول كمخيط على أن الميم زائدة من عانه أدركه بعينه كركبه إذا ضربه بركبته وإطلاقه على الماء الجاري لما أنه في الأغلب يكون ظاهراً مشاهداً بالعين، ووصف الماء بذلك لأنه الجامع لانشراح الصدر وطيب المكان وكثرة المنافع‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات‏}‏ حكاية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الاجمال لما خوطب به كل رسول في عصره جيء بها إثر حكاية إيواء عيسى وأمه عليهما السلام إلى الربوة إيذاناً بأن ترتيب مبادي النعم لم تكن من خصائص عيسى عليه السلام بل إباحة الطيبات شرع قديم جرى عليه جميع الرسل عليهم السلام ووصوا به أي وقلنا لكل رسول كل من الطيبات واعمل صالحاً فعبر عن تلك الأوامر المتعددة المتعلقة بالرسل بصيغة الجمع عند الحكاية إجمالاً للإيجاز أو حكاية لما ذكر لعيسى وأمه عليهما السلام عند إيوائهما إلى الربوة ليقتديا بالرسل في تناول ما رزقا كأنه قبل آويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين وقلنا أو قائلين لهما هذا أي اعلمناهما أو معلميهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا فكلا واعملا اقتداء بهم، وجوز أن يكون نداء لعيسى عليه السلام وأمراً له بأن يأكل من الطيبات، فقد جاء في حديث مرسل عن حفص ابن أبي جبلة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل‏}‏ الخ‏:‏ ذاك عيسى ابن مريم كان يأكل من غزل أمه، وعن الحسن‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ والسدي‏.‏ والكلبي أنه نداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخطاب له والجمع للتعظيم واستظهر ذلك النيسابوري، وما وقع في «شرح التلخيص» تبعاً للرضى من أن قصد التعظيم بصيغة الجمع في غير ضمير المتكلم لم يقع في الكلام القديم خطأ لكثرته في كلام العرب مطلقاً بل في جميع الألسنة وقد صرح به الثعالبي في فقه اللغة، والمراد بالطيبات على ما اختاره شيخ الإسلام وغيره ما يستطاب ويستلذ من مباحات المأكل والفواكه، واستدل له بأن السياق يقتضيه والأمر عليه للإباحة والترفيه وفيه إبطال للرهبانية التي ابتدعتها النصارى، وقيل المراد بالطيبات ما حل والأمر تكليفي، وأيد بتعقيبه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعملوا صالحا‏}‏ أي عملاً صالحاً، وقد يؤيد بما أخرجه أحمد في الزهد‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والحاكم وصححه عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس رضي الله تعالى عنها أنها بعثت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بقدح لبن عند فطره وهو صائم فرد إليها رسولها أنى لك هذا اللبن‏؟‏ قالت‏:‏ من شاة لي فرد إليها رسولها أنى لك الشاة‏؟‏ فقالت‏:‏ اشتريتها من مالي فشرب منه عليه الصلاة والسلام فلما كان من الغد أتته أم عبد الله فقالت‏:‏ يا رسول الله بعثت إليك بلبن فرددت إلى الرسول فيه فقال صلى الله عليه وسلم لها‏:‏ ‏"‏ بذلك أمرت الرسل قبلي أن لا تأكل إلا طيباً ولا تعمل إلا صالحاً ‏"‏

وكذا بما أخرجه مسلم‏.‏ والترمذي‏.‏ وغيرهما عن أبي هريرة قال‏:‏ ‏"‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس إن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً وإن الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال‏:‏ ‏{‏وَمَعِينٍ يأَيُّهَا الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا‏}‏ وقال‏:‏ ‏{‏يَعْقِلُونَ يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 172‏]‏ ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطمعه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذى بالحرام يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب فانى يستجاب لذلك ‏"‏ وتقديم الأمر بأكل الحلال لأن أكل الحلال معين على العمل الصالح‏.‏

وجاء في بعض الأخبار أن الله تعالى لا يقبل عبادة من في جوفه لقمة من حرام، وصح أيما لحم نبت من سحت فالنار أولى به‏.‏ ولعل تقديم الأمر الأول على تقدير حمل الطيب على ما يستلذ من المباحات لأنه أوفق بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ ءايَةً وءاويناهما‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 50‏]‏ وفي الأمر بعده بالعمل الصالح حث على الشكر‏.‏

‏{‏إِنّى عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ من الأعمال الظالهرة والباطنة ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ فأجازيكم عليه‏.‏ وفي «البحر» أن هذا تحذير للرسل عليهم السلام في الظاهر والمراد أتباعهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِنَّ هذه‏}‏ أي الملة والشريعة، وأشير إليها بهذه للإشارة إلى كمال ظهور أمرها في الصحة والسداد وانتظامها بسبب ذلك في سلك الأمور الشماهدة ‏{‏أُمَّتُكُمْ‏}‏ أي ملتكم وشريعتكم والخطاب للرسل عليهم السلام على نحو ما مر؛ وقيل عام لهم ولغيرهم وروى ذلك عن مجاهد، والجملة على ما قال الخفاجي عطف على جملة ‏{‏إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ فالواو من المحكى، وقيل هي من الحكاية وقد عطفت قولاً على قول، والتقدير قلنا يا أيها الرسل كلوا الخ وقلنا لهم إن هذه أمتكم ولا يخفى بعده‏.‏

وقيل‏:‏ الواو ليست للعطف والجملة بعدها مستأنفة غير معطوفة على ما قبلها وهو كما ترى، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏ حال مبنية من الخبر والعامل فيها معنى الإشارة أي أشير إليها في حال كونها شريعة متحدة في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الأعصار؛ وقيل‏:‏ ‏{‏هذه‏}‏ إشارة إلى الأمم الماضية للرسل، والمعنى أن هذه جماعتكم جماعة واحدة متفقة على الايمان والتوحيد في العبادة ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ‏}‏ أي من غير أن يكون لي شريك في الربوبية، وهذه الجملة عطف على جملة ‏{‏إِنَّ هذه‏}‏ الخ المعطوفة على ما تقدم وهما داخلان في حيز التعليل للعمل الصالح لأن الظاهر أن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ تعليل لذلك، ولعل المراد بالعمل الصالح ما يشمل العقائد الحقة والأعمال الصحيحة، واقتضاء المجازاة والربوبية لذلك ظاهر وأما اقتضاء اتحاد الشريعة في الأصول التي لا تتبدل لذلك فباعتبار أنه دليل حقية العقائد وحقيتها تقتضي الاتيان بها والاتيان بها يقتضي الاتيان بغيرها من الأعمال الصالحة بل قيل لا يصح الاعتقاد مع ترك العمل، وعلى هذا يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقون‏}‏ كالتصريح بالنتيجة فيكون الكلام نظير قولك‏:‏ العالم حادث لأنه متغير وكل متغير حادث فالعالم حادث‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم أن ضمير الخطاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ وفي قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاتقون‏}‏ للرسل والأمم جميعاً على أن الأمر في حق الرسل للتهييج والإلهاب وفي حق الأمة للتحذير والإيجاب، والفاء لترتيب الأمر أو وجوب الامتثال به على ما قبله من اختصاص الربوبية به سبحانه واتحاد الأمة فإن كلاً منهما موجب للاتقاء حتماً، والمعنى فاتقون في شق العصا والمخالفة بالإخلال بموجب ما ذكر‏.‏

وقرأ الحرميان‏.‏ وأبو عمرو ‏{‏وَأَنْ‏}‏ بفتح الهمزة وتشديد النون، وخرج على تقدير حرف الجر أي ولأن هذه الخ، والجار والمجرور متعلق باتقون، قال الخفاجي‏:‏ والكلام في الفاء الداخلة عليه كالكلام في فاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإياي فارهبون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 51‏]‏ وهي للسببية وللعطف على ما قبله وهو ‏{‏اعملوا‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ والمعنى اتقوني لأن العقول متفقة على ربوبيتي والعقائد الحقة الموجبة للتقوى انتهى، ولا يخلو عن شيء، وجوز أن تكون ‏{‏إِنَّ هذه‏}‏ الخ على هذه القراءة معطوفاً على ‏{‏مَا تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 51‏]‏ والمعنى أني عليم بما تعملون وبأن هذه أمتكم أمة واحدة الخ فهو داخل في حيز المعلوم‏.‏ وضعف بأنه لا جزالة في المعنى عليه، وقيل‏:‏ هو معمول لفعل محذوف أي واعملوا أن هذه أمتكم الخ وهذا المحذوف معطوف على ‏{‏اعملوا‏}‏ ولا يخفى أن هذا التقدير خلاف الظاهر‏.‏

وقرأ ابن عامر ‏{‏وَأَنْ‏}‏ بفتح الهمزة وتخفيف النون على أنها المخففة من الثقيلة ويعلم توجيه الفتح مما ذكرنا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏فَتَقَطَّعُواْ أَمْرَهُمْ‏}‏ الضمير لما دل عليه الأمة من أربابها إن كانت بمعنى الملة أو لها إن كانت بمعنى الجماعة، وجوز أن يراد بالأمة أولاً الملة وعند عود الضمير عليها الجماعة على أن ذلك من باب الاستخدام، والمراد حكاية ما ظهر من أمم الرسل عليهم السلام من مخالفة الأمر، والفاء لترتيب عصيانهم على الأمر لزيادة تقبيح حالهم، وتقطع بمعنى قطع كتقدم بمعنى قدم؛ والمراد بأمرهم أمر دينهم إما على تقدير مضاف أو على جعل الإضافة عهدية أي قطعوا أمر دينهم وجعلوه أدياناً مختلفة مع اتحاده، وجوز أن يراد بالتقطع التفرق، و‏{‏أَمَرَهُمْ‏}‏ منصوب بنزع الخافض أي فتفرقوا وتحزبوا في أمرهم، ويجوز أن يكون ‏{‏أَمَرَهُمْ‏}‏ على هذا نصباً على التمييز عند الكوفيين المجوزين تعريف التمييز ‏{‏بَيْنَهُمْ زُبُراً‏}‏ أي قطعاً جمع زبور بمعنى فرقة، ويؤيده أنه قرىء ‏{‏زُبُراً‏}‏ بضم الزاي وفتح الباء فإنه مشهور ثابت في جمع زبرة بمعنى قطعة وهو حال من ‏{‏أَمَرَهُمْ‏}‏ أو من واو ‏{‏تقطعوا‏}‏ أو مفعول ثان له فإنه مضمن معنى جعلوا، وقيل‏:‏ هو جمع زبور بمعنى كتاب من زبرت بمعنى كتبت وهو مفعول ثان لتقطعوا المضمن معنى الجعل أي قطعوا أمر دينهم جاعلين له كتباً‏.‏

وجوز أن يكون حالاً من ‏{‏حَيْثُ أَمَرَهُمْ‏}‏ على اعتبار تقطعوا لازماً أي تفرقوا في أمرهم حال كونه مثل الكتب السماوية عندهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنها حال مقدرة أو منصوب بنزع الخافض أي في كتب، وتفسير ‏{‏زُبُراً‏}‏ بكتب رواه جماعة عن قتادة كما في «الدر المنثور»، ولا يخفى خفاء المعنى عليه ولا يكاد يستقيم إلا بتأويل فتدبر‏.‏

وقرىء ‏{‏زُبُراً‏}‏ بإسكان الباء للتخفيف كرسل في رسل، وجاء ‏{‏فَتَقَطَّعُواْ‏}‏ هنا بالفاء إيذاناً بأن ذلك اعتقب الأمر وفيه مبالغة في الذم كما أشرنا إليه، وجاء في سورة الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر‏.‏ وجاء هنا ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 52‏]‏ وهو أبلغ في التخويف والتحذير مما جاء هناك من قوله تعالى‏:‏ هناك‏:‏ ‏{‏وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاعبدون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 92‏]‏ لأن هذه جاءت عقيب إهلاك طوائف كثيرين قوم نوح والأمم الذين من بعدهم وفي تلك السورة وإن تقدمت أيضاً قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب‏.‏ وزكريا‏.‏ ومريم فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته عز وجل قاله أبو حيان، وما ذكره أولاً غير واف بالمقصود، وما ذكره ثانياً قيل عليه‏:‏ إنه مبني على أن الآية تذييل للقصص السابقة أو لقصة عيسى عليه السلام لا ابتداء كلام فإنه حينئذٍ لا يفيد ذلك إلا أن يراد أنه وقع في الحكاية لهذه المناسبة فتأمل‏.‏

‏{‏كُلُّ حِزْبٍ‏}‏ من أولئك المتحزبين ‏{‏بِمَا لَدَيْهِمْ‏}‏ من الأمر الذي اختاروه ‏{‏فَرِحُونَ‏}‏ مسرورون منشرحو الصدر، والمراد أنهم معجبون به معتقدون أنه الحق، وفي هذا من ذم أولئك المتحزبين ما فيه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏فَذَرْهُمْ فِى غَمْرَتِهِمْ‏}‏ خطاب له صلى الله عليه وسلم في شأن قريش الذين تقطعوا في أمر الدين الحق، والغمرة الماء الذي يغمر القامة وأصلها من الستر والمراد بها الجهالة بجامع الغلبة والاستهلاك، وكأنه لما ذكر سبحانه في ضمن ما كان من أمم الأنبياء عليهم السلام توزعهم واقتسامهم ما كان يجب اجتماعه واتفاق الكلمة عليه من الدين وفرحهم بفعلهم الباطل ومعتقدهم العاطف قال لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ فإذ ذاك دعهم في جهلهم هذا الذي لا جهل فوقه تخلية وخذلاناً ودلالة على الياس من أن ينجع القول فيهم وضمن التسلية في ذكر الغاية أعني قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏حتى حِينٍ‏}‏ فإن المراد بذلك حين قتلهم وهو يوم بدر على ما روي عن مقاتل أو موتهم على الكفر الموجب للعذاب أو عذابهم، وفي التنكير والإبهام ما لا يخفى من التهويل‏.‏

وجوز أن يقال‏:‏ شبه حال هؤلاء مع ما هم عليه من محاولة الباطل والانغماس فيه بحال من يدخل في الماء الغامر للعب والجامع تضييع الوقت بعد الكدح في العمل، والكلام حينئذٍ على منوال سابقه أعني قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 53‏]‏ لما جعلوا فرحين غروراً جعلوا لاعبين أيضاً والأول أظهر؛ وقد يجعل الكلام عليه أيضاً استعارة تمثيلية بل هو أولى عند البلغاء كما لا يخفى‏.‏

وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه‏.‏ وأبو حيوة‏.‏ والسلمي ‏{‏فِى‏}‏ على الجمع لأن لكل واحد غمرة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ‏}‏ أي الذي نعطيهم إياه ونجعله مدداً لهم، فما موصولة اسم أن ولا يضر كونها موصولة لأنها في الأمام كذلك لسر لا نعرفه‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن مَّالٍ وَبَنِينَ‏}‏ بيان لها‏.‏ وتقديم المال على البينين مع كونهم أعز منه قد مر وجهه

‏[‏بم وقوله سبحانه‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏نُسَارِعُ لَهُمْ فِى الخيرات‏}‏ خبر ‏{‏أن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55‏]‏ والراجع إلى الاسم محذوف أي أيحسبون أن الذي نمدهم به من المال والبنين نسارع به لهم فيما فيه خيرهم وإكرامهم على أن الهمزة لإنكار الواقع واستقباحه وحذف هذا العائد لطول الكلام مع تقدم نظيره في الصلة إلا أن حذف مثله قليل، وقال هشام بن معاوية‏:‏ الرابط هو الاسم الظاهر وهو ‏{‏الخَيْرَاتِ‏}‏ وكأن المعنى نسارع لهم فيه ثم أظهر فقيل في الخيرات، وهذا يتمشى على مذهب الأخفش في إجازته نحو زيد قام أبو عبد الله إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، قيل‏:‏ ولا يجوز أن يكون الخبر ‏{‏مِن مَّالٍ وَبَنِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55‏]‏ لأن الله تعالى أمدهم بذلك فلا يعاب ولا ينكر عليهم اعتقاد المدد به كما يفيده الاستفهام الإنكاري‏.‏ وتعقب بأنه لا يبعد أن يكون المراد ما نجعله مدداً نافعاً لهم في الآخرة ليس المال والبنين بل الاعتقاد والعمل الصالح كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 88، 89‏]‏ وفيه ما فيه‏.‏ وما ذكرنا من كون ‏{‏ما‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55‏]‏ موصولة هو الظاهر، ومن جوز كونها مصدرية وجعل المصدر الحاصل بعد السبك اسم ‏{‏أن‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55‏]‏ وخبرها ‏{‏نُسَارِعُ‏}‏ على تقدير مسارعة بناءً على أن الأصل أن نسارع فحذفت أن وارتفع الفعل لم يوف القرآن الكريم حقه، وكذا من جعلها كافة كالكسائي ونقل ذلك عنه أبو حيان، وجوز عليه الوقف على ‏{‏بنيان‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55‏]‏ معللاً بأن ما بعد بحسب قد انتظم مسنداً ومسنداً إليه من حيث المعنى وإن كان في تأويل مفرد وهو كما ترى، وقرأ ابن وثاب ‏{‏أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55‏]‏ بكسر همزة إن‏.‏ وقرأ ابن كثير في رواية ‏{‏يمدهم‏}‏ بالياء‏.‏

وقرأ السلمي‏.‏ وعبد الرحمن بن أبي بكرة ‏{‏يسارع‏}‏ بالياء وكسر الراء فإن كان فاعله ضميره تعالى فالكلام في الرابط على ما سمعت، وإن كان ضمير الموصول فهو الرابط‏.‏ وعن ابن أبي بكرة المذكور أنه قرأ ‏{‏يسارع‏}‏ بالياء وفتح الراء مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ الحر النحوي ‏{‏نسرع‏}‏ بالنون مضارع أسرع‏.‏ وقرىء على ما في «الكشاف» ‏{‏يسرع‏}‏ بالياء مضارع أسرع أيضاً وفي فاعله الاحتمالان المشار إليهما آنفاً ‏{‏الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ‏}‏ عطف على مقدر ينسحب عليه الكلام أي كلا لا نفعل ذلك بل لا يشعرون أي ليس من شأنهم الشعور أن هم إلا كالأنعام بل هم أضل حتى يتأملوا ويتفكروا في ذلك هو استدراج أم مسارعة ومبادرة في الخيرات‏.‏ ومن هنا قيل‏:‏ من يعص الله تعالى ولم ير نقصاناً فيما أعطاه سبحانه من الدنيا فليعلم أنه مستدرج قد مكر به، وقال قتادة‏:‏ لا تعتبروا الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبروهم بالإيمان والعمل الصالح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين هُم مّنْ خَشْيةِ رَبّهِمْ مُّشْفِقُونَ‏}‏ الكلام فيه نظير ما مر في نظيره في سورة الأنبياء بيد أن في استمرار الإشفاق هنا في الدنيا والآخرة للمؤمنين تردداً

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي يصدقون، والمراد التصديق بمدلولها إذ لا مدح في التصديق بوجودها، والتعبير بالمضارع دون الاسم للإشارة إلى أنه كلما وقفوا على آية آمنوا بها وصدقوا بمدلولها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏59‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ ‏(‏59‏)‏‏}‏

‏{‏والذين هُم بِرَبّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ‏}‏ فيخلصون العبادة له عز وجل فالمراد نفي الشرك الخفي كالرياء بالعبادة كذا قيل، وقد اختار بعض المحققين التعميم أي لا يشركون به تعالى شركاً جلياً ولا خفياً ولعله الأولى، ولا يغني عن ذلك وصفهم بالإيمان بآيات الله تعالى‏.‏

وجوز أن يراد مما سبق وصفهم بتوحيد الربوبية ومما هنا وصفهم بتوحيد الألوهية، ولم يقتصر على الأول لأن أكثر الكفار متصفون بتوحيد الربوبية ‏{‏وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السموات والارض لَيَقُولُنَّ الله‏}‏ ‏[‏لقمان‏:‏ 25‏]‏ ولا يأباه التعرض لعنوان الربوبية فإنه في المواضع الثلاثة للإشعار بالعلية وذلك العنوان يصلح لأن يكون علة لتوحيد الألوهية كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ‏}‏ أي يعطون ما أعطوا من الصدقات ‏{‏وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ خائفة من أن لا يقبل منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به‏.‏ وقرأت عائشة‏.‏ وابن عباس‏.‏ وقتادة‏.‏ والأعمش‏.‏ والحسن والنخعي ‏{‏يَأْتُونَ مَا ءاتَواْ‏}‏ من الإتيان لا الإيتاء فيهما‏.‏ وأخرج ابن مردويه‏.‏ وسعيد بن منصور عن عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ كذلك وأطلق عليها المفسرون قراءة رسول الله عليه الصلاة والسلام يعنون أن المحدثين نقلوها عنه صلى الله عليه وسلم ولم يروها القراء من طرقهم‏.‏ والمعنى عليها يفعلون من العبادات ما فعلوه وقلوبهم وجلة، وروي نحو هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

فقد أخرج أحمد‏.‏ والترمذي‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن جرير‏.‏ وجماعة عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت‏:‏ قلت يا رسول الله قول الله ‏{‏والذين يَأْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ‏}‏ أهو الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله تعالى‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكنه الرجل يصوم ويتصدق ويصلي وهو مع ذلك يخاف الله تعالى أن لا يتقبل منه، وجملة ‏{‏قُلُوبِهِمْ وَجِلَةٌ‏}‏ في القراءتين في موضع الحال من ضمير الجمع في الصلة الأولى، والتعبير بالمضارع فيها للدلالة على الاستمرار وفي الثانية للدلالة على التحقق، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون‏}‏ بتقدير اللام التعليلية وهي متعلقة بوجلة أي خائفة من عدم القبول وعدم الوقوع على الوجه اللائق لأنهم راجعون إليه تعالى ومبعوثون يوم القيامة وحينئذٍ تنكشف الحقائق ويحتاج العبد إلى عمل مقبول لائق ‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7 8‏]‏‏.‏

وجوز أن يكون بتقدير من الابتدائية التي يتعدى بها الوجل أي وجلة من أن رجوعهم إليه عز وجل على أن مناط الوجل أن لا يقبل ذلك منهم وأن لا يقع على الوجه اللائق فيؤاخذوا به حينئذٍ لا مجرد رجوعهم إليه عز وجل، وقد يؤيد الوجه الأول بقراءة الأعمش ‏{‏أَنَّهُمْ‏}‏ بكسر الهمزة، ولعل التعبير بالجملة الإسمية المخبر فيها بالوصف دون الفعل المضارع للمبالغة في تحقق الرجوع حتى كأنه من الأمور الثابتة المستمرة كذا قيل‏.‏

وجوز على بعد أن يكون المراد من الرجوع المذكور الرجوع إليه عز وجل بالعبودية، فوجه التعبير بالجملة الاسمية عليه أظهر من أن يخفى، ووجه تعليل الخوف من عدم القبول وعدم وقوع فعلهم كائناً ما كان على الوجه اللائق بأنهم راجعون إليه تعالى بالعبودية عدم وجوب قبول عملهم عليه تعالى حينئذٍ لأنه سبحانه مالك وللمالك أن يفعل بملكه ما يشاء وظهور نقصهم كيف كانوا عن كماله جل جلاله والناقص مظنة أن لا يأتي بما يليق بالكامل لا سيما إذا كان ذلك الكامل هو الله عز وجل الذي لا يتناهى كماله ولا أراك ترى في هذا الوجه كلفاً سوى كلف البعد فتأمل، ثم إن الموصولات الأربع على ما قاله شيخ الإسلام‏.‏

وغيره عبارة عن طائفة واحدة متصفة بما ذكر في حيز صلاتها من الأوصاف الأربعة لا عن طوائف كل واحدة منها متصفة بواحد من الأوصاف المذكورة كأنه قيل‏:‏ إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وبآيات ربهم يؤمنون الخ، وإنما كرر الموصول إيذاناً باستقلال كل واحدة من تلك الصفات بفضيلة باهرة على حيالها وتنزيلاً لاستقلالها منزلة استقلال الموصوف بها، وهذا جار على كلتا القراءتين في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ‏}‏ وللعلامة الطيبي في هذا المقام كلام لا أظنك تستطيبه كيف وفيه القول بأن الذين هم بربهم لا يشركون والذين يأتون ما أتوا وقلوبهم وجلة هم العاصون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهو في غاية البعد‏.‏

وقد ذكر الإمام أن الصفة الرابعة نهاية مقامات الصديقين‏.‏